مكواة


الرتابة ملل لا يفنى. هذا هو ملخص حياتي مع زوجتي. لا أعلم منذ متى بالضبط أمسى حالنا على هذا النحو. تجتاحني رغبة ساحقة في تهشيم رأس هذه المرأة التي تتعامل ببرود الآلة وانضباطها وربما قوتها أيضًا. أشعر كأنني مثقل بتاريخ طويل من الغضب تجاه هذه المرأة. في كل صباح أراها واقفة عند الطاولة تمسك بالمكواة وتمارس كي الملابس بلا كلل ولا ملل. وما أن تراني حتى تنظر لي بابتسامة باردة وهي لا تزال ممسكة بالمكواة تقول: "الطعام على المائدة". ولا أكاد أنظر إلى المائدة حتى تردف قائلة: "لا تنسى إحضار الأطفال من السوق عند عودتك من العمل". 
في كل يوم ألتزم بهذه التعليمات الصباحية وأتعجب أيضًا لماذا أحضر الأطفال من السوق بدلًا من المدرسة ألا يفترض أن آخذهم من المدرسة بدلًا من السوق؟! وفعلًا في كل يوم أمر على السوق عند عودتي من العمل فأجد أطفالي بالزي المدرسي يتناولون الفاكهة بنهم ونعود إلى المنزل لأجد والدتهم قد أعدت المائدة التي يبدو طعامها أشبه بلوحة مرسومة أو طعام بلاستيكي لنخلد إلى النوم ونعيد الكرة في صباح اليوم التالي. لا تنصرف زوجتي عن هذا الروتين الصباحي ولا يكف أطفالي عن تناول الفاكهة بنهم والنظر لي بعيون ذابلة. طوال الليل يراودني حلم أراني فيه أصفع هذه المرأة الجامدة التي ترمقني بنظرات باردة مستفزة كما أتمنى حقًا ضربها لتكف عن نظراتها المريبة التي تحدجني بها. 
واستيقظت ذات صباح لأجدها كعادتها واقفة عند الطاولة تكوي الملابس فأمسكتها من ذراعها ونهرتها لكي تكف عن التصرف بلا مبالاة فدفعتني بقوة كأنها مصارع فوجدتني مطروحًا أرضًا. تجمدت في أرضي من الدهشة فمن أين لهذه المرأة الهزيلة بهذه القوة أم أنها أصبحت في صلابة الآلة التي تتصرف مثلها؟ هممت بصفعها مرة أخرى لكنها صدت يدي أيضًا وأشارت بلا مبالاة إلى الطاولة قائلة: "الطعام على المائدة". وأردفت دون أن ترفع عينيها عن الملابس التي تكويها: "لا تنس إحضار الأطفال من السوق عند عودتك من العمل". وأقفلت الباب خلفي وهي تودعني بابتسامة تحدٍ باردة وأخذت أنزل على الدرج والغضب يفيض مني. ما الذي حدث لي؟ أين ذهبت قوتي؟ كيف لهذه المرأة أن تتحداني وتهينني؟
 في كل يوم أصحو منهك الجسد، خائر القوى مبرقش من الكدمات وتلك المرأة ممددة بجواري تغط في نوم عميق. أشعر بجفاف ريقي فأنهض لأروى غلة ظمأي فأجد الطفلين يتناولان الفاكهة في نهم لا ينفك ويحدقان بعيون جامدة كأنهما والفاكهة لوحة مرسومة بألوان زيتية فأنهرهما وأطلب منهما الخلود إلى النوم فينظران في ضيق ويحملان الطبق معهما إلى الغرفة. 
ضقت ذرعًا بهذه المرأة التي عزمت على أن تدفعني نحو الجنون هي وولداها وقررت أن أضع لها حدًا. استيقظت ووجدتها على غير العادة تحمل سلة الغسيل وتخرج منها الملابس وتمسك بالمكواة لكيها. سألتها أين الفطور؟ فأجابتني بل هو موعد الغداء، اذهب واحضر الأطفال من المدرسة وريثما تعود سأكون قد أعددت المائدة." فوجدتها فرصةً سانحة لأنفث عن غضبي من هذه المرأة وانهلت عليها سبابًا واتهامًا بالتقصير وجذبتها من ذراعيها الهزيلتين وصفتها فلم تبد مقاومة وأخذت تبكي بأنين مكتوم بينما أكيل لها الضربات والركلات ثم أخذت المكواة الساخنة وشججت بها رأسها. وما أن سقطت على الأرض وفاضت نافورة الدماء من رأسها حتى لذت بالفرار. وما أن رآني الطفلان وهما عائدان من السوق في طريقهما إلى البيت حتى أسرعا نحوي فزعين فدفتهما بقوة على قارعة الطريق وهرولت في طريق الهرب حتى لم أكد أجد آثارًا لخطواتي على الطريق ووجدتني أمام باب منزلي مرة أخرى فجربت طريقًا أخرى للهرب ولم تقودني كل الطرق إلا لباب المنزل نفسه فلم أجد بدًا من دخوله وما أن دخلته حتى وجدتني مستيقظًا في سريري وبجواري زوجتي ممددة فتنفست الصعداء من ذلك الكابوس.
 لم تستيقظ زوجتي كعادتها هذا الصباح لكن جسدها كان مبرقش بالكدمات فأدركت أنني تشاجرت معها وضربتها كعادتي لكنني ارتحت لأنها ما زالت موجودة وأن ما رأيته كان محض كابوس لعين. خرجت من الغرفة  فوجدت الملابس والمكواة على الطاولة والطعام على المائدة فقلت في نفسي لعلها فرصة ثانية. نزلت على الدرج وسمعت صاحب العمارة يتحدث مع أحد الأشخاص عن الضوضاء الصادرة من شقتي بالأمس وصوت الصراخ، مررت بجانبهما ولم يلتفتا لي لا بد أنني بلغت منهما مبلغ الاحتقار لدرجة أنهما لا يطيقان النظر في وجهي. ذهبت إلى السوق لإحضار الطفلين فوجدت جارتين تتحدثان عن شقتي وكيف أن أصوات الشجار والعراك لا يزال يتردد صداها منذ تلك الليلة، منذ أن شج الرجل رأس زوجته بالمكواة و ألقى بطفليه على قارعة الطريق فدهستهما سيارة نقل محملة بصناديق الفاكهة ولاذ بالفرار ليجده الجيران في صباح اليوم التالي مضرجًا في دمائه مشجوج الرأس بمكواة أمام منزله. 

تعليقات

المشاركات الشائعة